سرديات قصيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شقاء النفوس
بقلم
أحمد النجار
كاتب مصري
صعبة هي الحياة ، وأصعب ما فيها أن تجد حولك قلوباً تحجرت وضمائر ماتت من أقرب الناس إليك ، إنه لشعور
مرير حقاً أن يجد الإنسان نفسه وحيداً في هذا الكون الواسع الكبير لا سند له
ولا معين إلا الله عز وجل .
تخيل نفسك وقد تخلى عنك أباك الذي يُفترض أن يرعاك ويدافع عنك ، تصور نفسك
وقد رزقك الله بأب قاسي القلب أو سلبي أو
أناني أو قل ما تشاء عليه من أوصاف !
ولم يقتصر الأمر علي قسوة قلب أبيك فقط ، بل امتدت القسوة إلي جدك وجدتك
وعمك وعمتك وكل ما يمت لك بصلة !
يا إلهي أيمكن أن يعيش بيننا وحوش آدمية ترتدي قناع الزيف البشري ؟!
أيوب فتي يافع ، شب عن الطوق فوجد أبيه يعمل خراطاً في ورشة خاصة بعد
استقالته من العمل الحكومي ، وينتمي لأسرة ميسورة الحال ، أما أمه فمن أسرة كريمة
فقدت ثراءها وأيوب ما زال طفلاً صغيراً .
قبل أن يبلغ الفتي الثامنة عشرة من عمره ، تنبهت حواسه على واقع حياتهم
المر ، حيث كانت أمه تفيض عليهم عطفاً
وحناناً ، وتقف عاجزة أمام جموح أبيهم ومغامراته ، فقد كان يختفي عدة سنوات تاركاً
أسرته بلا أي مورد ، ثم يعود فجأة ، وتعرف أمه أنه قد تزوج وطلّق في فترة غيبته
بعيداً عنهم ، ورغم ذلك تقابله بالتسامح والإحترام ، بل وتمنع إخوتها عن زجره
وعتابه أملاً في أن ينصلح حاله ويستقر في بيته ويرعى أولاده ، فلا يمضي شهر أو
أكثر قليلاً حتي
( يغطس) مرة أخري لعام أو عامين ،
واستمرت حياته في تلك العربدة طويلاً
وأسرف في الزواج فبدد ثروته التي ورثها عن أبيه وأفلس وأغلق مكتبه المهني
وتوقف عن الإنفاق نهائياً علي أولاده ، ووجدت أم أيوب نفسها مع أولادها
الأربعة وقد أصبحوا بلا أي مورد !
ساعتها تشاور الأهل في مستقبلهم ، وكيف يعيشون ؟!
استقر رأي جدهم لأبيهم علي أن يضم أيوب
إلي أسرته بالقاهرة ، مقابل أن يعطي أمه مبلغ شهري بسيط تواجه به مصاعب الحياة ، واضطر أيوب
لمفارقة أمه وإخوته وانضم لأسرة جده الذي بعيش مع جدته وعمتين
شابتين .
كانت شقة جده مكونة من ثلاث غرف ،
إحداها للصالون والأخرى لنوم جده وجدته ، وفي ركن منها فراش عمته الكبرى ، أما
الحجرة الثالثة قتنفرد بها عمته الصغرى
المدللة الطالبة بالثانوية العامة ، أما الصالة ففيها السفرة وإلى جوارها كنبة بلدية .
عندما جاء الليل بعد
أول يوم لأيوب مع أسرة جده ، أعطته جدته بطانية ممزقة ومخدة حالتها رثة جداً ، وأشارت له أن ينام على
البلاط تحت مائدة السفرة ، وامتثل الفتي
البائس طائعاً لحياته الجديدة ، وأصبح منامه الدائم تحت المائدة ، أصبح يومه حسب
تعليمات جدته له يبدأ في السادسة صباحاً فينهض من نومه ويرفع فراشه ويخفيه في المطبخ ، ثم يكنس الصالة ويمسحها بالماء والخيشة ، ثم ينزل للشارع ويشتري
الخبز والفول ويعد طعام الإفطار
لأسياده الجدد على مائدة السفرة ،
بينما يأكل هو لقمة صغيرة ببقايا طعامهم
علي عجلة في المطبخ ، ثم يعد لهم
الشاي ، وبعد أن يغسل الأطباق يرتدي ملابس المدرسة القديمة ويذهب لمدرسته ، ثم يعود منها وقت الظهر ، فيضع
كتبه في المطبخ ، ثم ينزل ليشتري الخضار واللحم
لجدته ويساعدها في الطهي ، ثم يعد الصفرة للغداء ويرفع الأطباق ويغسلها ،
ثم يكنس الشقة مرة أخرى ويمسحها بالماء ،
ويصنع الشاي ما لا يقل عن ثماني مرات لمن يريد !
ويساعد جدته في الغسيل على الغسالة القديمة إلي جانب غسيل جوارب عمته ومناديلها ، بل وملابسها الداخلية ، وأخيراً
يحاول آخر الليل اختلاس بعض الدقائق لاستذكار دروسه ، ويظل مستيقظاً يغالب النوم حتى يدخل جده وجدته إلي غرفتيهما ،
وقرب منتصف الليل يحضر فراشه من المطبخ
ويضعه تحت مائدة الطعام وينام كالقتيل !
هكذا عاش الفتي بينهم خادماً صغيراً ، يعمل لدى أسرة جده الميسورة مقابل
إعانة بسيطة لأمه !
رغم كل شيء لم يكره أيوب جده ولا جدته ولا عماته ، فقد كانت عمته الصغرى
طالبة متعثرة بالمرحلة الثانوية ودائماً تسهر الليل للاستذكار وتطالبه بالسهر
معها لخدمتها لعمل الشاى والقهوة طوال
الليل ، ويستجيب هو لطلباتها ويظل يغالب النوم حتى الثانية صباحاً ، كما كانت (
سامحها الله ) توقظه من نومه بعد منتصف الليل في ليالي الشتاء القارصة كي يعد لها
ولصديقاتها الساهرات معها الطعام والشاي ، ورغم ذلك كانت ترسب وتعيد كل سنة دراسية عامين
أو ثلاثة !
في حين كان أيوب متفوقاً في دراسته
رغم أنه لم يكن يذاكر سوي ساعة أو ساعتين كل يوم ، ولم ينس أبداً موقف جده
الغني الميسور وهو يقدم طلباً لناظر المدرسة التي يدرس فيها لإعفائه من رسوم الدراسة
بحجة الفقر ناسياً أنه في نفس
الوقت حفيده !
دارت الأيام دورتها حتى حصل أيوب علي شهادة الإعدادية ، وصعبت حالته
الصحية على جده ؛ فطلب من جدته راجياً أن تسمح له بالنوم على الكنبة في الصالة بعد
أن كثرت أمراضه بسبب نومه على البلاط ، ووافقت وأخيراً خرج الفتى البائس من تحت
المائدة لأول مرة بعد ستة أعوام ، وبدأت أسرة جده تبحث مستقبله التعليمي ، واستقر رأيهم علي أن
يلتحق بالمدرسة التجارية ، وبالفعل التحق
أيوب بالمدرسة وحصل علي دبلوم التجارة، وعمل ببنك الإئتمان الزراعي
أما عن علاقته بأمه وإخوته فقد كان يراهم في المواسم فقط وعلى فترات
متباعدة ، كانت أمه ترثي لحالته ، وذات زيارة ضعف أيوب وطلب من أمه أن تسمح له
بالبقاء معها كي يشعر بحنانها وينام في حضنها
وحضن إخوته ؛ فبكت الأم وقالت له عبارتها الأثيرة التي تناديه بها دائماً :
يا عين أمك !.. ابق معنا وليفعل الله بنا ما يشاء ، لكن جده زمجر وهددهم بقطع إعانته الشهرية ، ورجع أيوب مرغماً
واستمرت حياته خادماً قي بيت جده !
أما أبيه فقد واصل الظهور والاختفاء خلال تلك السنوات ، وفي إحدى
ظهوراته أهداهم شقيقهم الأصغر ممدوح ، فأصبحوا خمسة أبناء .
تقدم الفتى أيوب في عمله الحكومي ، وذات يوم قابل إنسان فاضل مع أحد أصدقائه في مناسبة اجتماعية ، تحدث معه طويلاً ويبدو أن صديقه قد قص عليه قصة
كفاحه ، ففوجئ أيوب بهذا الرجل الفاضل في نهاية الجلسة يقول له أنه معجب بشخصيته
وكفاحه في الحياة ، ثم أعطاه بطاقة تعريف بشخصيته ، فإذا به مدير لأحد البنوك
الأجنبية ، وطلب منه زيارته في اليوم التالي ، وزاره
أيوب ، وفاجئه الرجل الطيب بترشيحه للعمل معه !!
يا الله ! ... يا لها من مفاجئة
عظيمة غيرت مجرى حياته ، وتم تعيين أيوب
بالدبلوم الذي حصل عليه أثناء
خدمته عند جده ، تم تعيين
الفتي بالبنك الاستثماري ،
فوجد نفسه فجأة في مجتمع جديد وغير مألوف له ، فالموظفين بالبنك كانوا جميعاً من أبناء الذوات وعلية القوم ، كلهم حديثهم بالانجليزية وملابسهم
مستوردة وفاخرة وسجائرهم أجنبية وكلهم من
أصحاب السيارات ، وصمّم أيوب على احترام نفسه معهم ، وفصّل بذلتين لائقتين وحرص
على ألا يدخن في البنك حتى لا يضطر لتدخين سجائره المحلية الرخيصة أمامهم ، ولم يقبل من
أحد سيجارة أو كوب شاي ، لقدرأي الفتى أن المحافظة على الكرامة لا تكون بالملابس
والمظهر فقط ، وإنما بالكفاءة في العمل ، لذلك تفاني في عمله وكان دائماً يتطوع لأداء أي عمل
زائد ، وحرص على أن ينقل في ورقة صغيرة كل التعبيرات الإنجليزية التي لم يفهمها
ويترجمها في البيت من القاموس ويظل
يحفظها عن ظهر قلب !
حتى أنه التحق بالعهد البريطاني لدراسة الإنجليزية ودرسها بدأب ومثابرة
حتى تمكن خلال فترة قصيرة من اجتياز أعلى اختباراتها ، وأصبح يجيد الانجليزية قراءة وكتابة ، وعمل بها في
البنك مما فتح أمامه مجالاً سريعاً للترقي ، ولم يكتف أيوب بذلك وانتسب لكلية
التجارة وحصل علي شهادة البكالوريوس في المحاسبة ، فتفتحت أمامه مجالات الترقي ،
وتلقي دورات تدريبية
في أوروبا وسافر في مهام عمل خاصة بالبنك في كثير من الدول الأوروبية والعربية ، وحقق خلال وقت قصير جداً نجاحاً
كبيراً بفضل دعوات أمه الصادقة له ليل نهار
وأكرمه الله وحصل على شقة فاخرة بأرقي الأحياء وتعرف علي زميلته زهرة وتزوجا
وسعدا يحياتهما معاً طوال أربع سنوات ، ولم ينغص عليهم سعادتهم سوى عدم قدرة زهرة على الإنجاب
وتدخل أمها المستمر في كل خصوصياتهم وانتهي الأمر بالطلاق ، وانهار أول بيت عرف
فيه أيوب الاستقرار بعد أيام الشقاء الطويلة !
فقد أخذت زوجته زهرة منه كل شئ ، ولم يكن في حسابه بالبنك يوم الطلاق سوى
مائة جنيه فقط !! وشقة خاوية علي البلاط ، لقد عاد أيوب إلي نقطة الصفر ثانية ،
وكانت تلك الفترة من أقسى فترات حياته !
لم ييأس أيوب ، وبعد فترة قصيرة واصل كفاحه من جديد واشترى سرير ثم غرفة
نوم ، وحاول رؤسائه في البنك الصلح بينه وبين طليقته زهرة ، لكنه
رفض بعد أن تشبعت نفسه بالمرارة من ناحيتها !
مرت الأيام وذات يوم التقي أيوب
في النادي بأمينة ، تلك الفتاة الجامعية
المهذبة التي رشحها له أحد الأقارب ، ثم تعرف بأبيها التاجر الميسور ، تحدث معه أيوب بصراحة
مطلقة وأفهمه أنه لا يملك شيئاً الآن سوي
وظيفته وشقته الخاوية علي عروشها بعد أن خسر في زواجه السابق كل مدخراته ، ساعتها
تأثر الرجل الكريم بصراحة أيوب ووافق على أن تتم خطبته لابنته أمينة وزواجه بلا شبكة ولا مهر لأنه يريد أن يكسب
رجلاً يحافظ علي ابنته وليس أثاثاً أو عقاراً ، تأثر أيوب كثيراً بكلام الرجل حتى اغرورقت عيناه
بالدموع ، وفي صباح اليوم التالي ذهب إلي عمله بالبنك وهو مهتاج المشاعر ، وهناك
عرف أن من حقه أن يستبدل جزء من معاشه بعدة آلاف من الجنيهات لأنه أتمم في العمل
أكثر من عشرين عاماً ، كانت تلك مفاجئة سارة له ، وعلى الفور قدم طلب لاستبدال المعاش وحصل علي مبلغ كبير ، وأصرُ
علي أن يشتري لخطيبته أمينة شبكة فاخرة بمبلغ كبير رغم رفضها ذلك ، لكنه تمسك
بشراء الشبكة لأنهما بكرمهم الزائد وافقوا عليه وهو علي البلاطة !!.. وهل جزاء
الإحسان إلا الإحسان ؟!
وتزوج أيوب من أمينة ورزقهم الله بطفل رائع عوضه عن كل ما لاقاه في حياته من شقاء وعناء ،
ومرت السنوات سريعاً وتحمل أيوب الصابر
مسئوليته عن أمه واخوته ، وأصرّ على أن يلتحق إخوته جميعاً بالتعليم الثانوي العام
الذى حُرم هو منه وهو يخدم في بيت جده ، وواصل تشجيعهم على الدراسة وتلبية جميع
مطالبهم المادية حتى تخرجوا جميعاً وعملوا ، أما آخر العنقود شقيقه ممدوح الذي أهداه لهم
أبيه في أحد ظهوراته الخاطفة ، فقد اعتبره ابنه الذي لم ينجبه وأراد أن يحقق فيه
ما لم تسعفه الأيام بتحقيقه ، فكان يحثه دائماً على المذاكرة والاجتهاد حتي وفقه الله وحصل علي الثانوية العامة بتفوق
والتحق بكلية الطب ، وما زال يواصل دراسته بنجاح .
واصل أيوب تحمله للمسئولية وساعد ( كل ) إخوته في أعباء زواجهم ، كان الله
يوّسع عليه من رزقه من أجل إخوته وأسرته الصغيرة ، أما ست الحبايب الغالية الصابرة
فما زالت حتى الآن تغمره بحبها وعطفها ولا تناديه وهو في الخامسة والأربعين إلا
بعبارتها الخالدة ( يا عين أمك ) ولا يجف
لسانها من الدعاء له بالسعادة في الدنيا والآخرة ، وتوالت جوائز السماء علي أيوب
ورزقه الله من حيث لا يحتسب رزقاً وفيراً ، وأصبح يعطي أمه زكاة ماله لتقوم
بتوزيعها علي
الضعفاء والمساكين من الأقارب والأباعد وأهل بلدته الصغيرة .
هكذا صارت حياة الفتى أيوب كفاح في كفاح ، ونجاح وراء نجاح بفضل رضا أمه
عنه ودعائها المستمر له .
ذات يوم فوجئ أيوب بصوت غريب في التليفون يقول له صاحبه أنه يريد أن يزوره
في البيت ، فرحّب به وعندما حضر فوجئ أنه أبيه !!
يا إلهي !!.. أبي .. أما زلت
تتذكرنا يا أبي ؟!
أما زلت تتذكر أن لك زوجة مسكينة صابرة وأبناء يحتاجون إلى رعايتك ؟!
نعم إنه أبي الذي لم أره منذ عشرين عاماً متصلة بالرغم من أنه يعيش في نفس
الوطن ولم يهاجر منه !
ترى ماذا تريد مني يا أبي بعد عشرين عام من الاختفاء عنا ؟!
يتساءل أيوب بينه وبين نفسه : ألم يكن لك قلب كقلوبنا ياأبي ؟!
لماذا لم تعطنا من حبك وحنانك ( بعض) ما يعطيه كل أب لأبنائه ؟!
دار حديث طويل بين أيوب وأبيه ، فهم منه أن موارد أبيه قد شحت وأن قد أنجب
من آخر زوجاته التي تصغر أم أيوب بأعوام كثيرة ؛ أنجب منها ثلاثة أبناء كثرت
مطالبهم واحتياجاتهم وأنه ينتظر من أيوب أن يساعده بمبلغ شهري محترم !
ساعتها نظر أيوب إلي أبيه وقد تجمعت كل أخزان الدنيا داخله ، ووجد نفسه
رغماً عنه يعاتبه لإهماله لهم وهم صغار
وتخليه عن مسئوليته، وروى له جانب من ذكرياته
في بيت جده وهو يمسح البلاط في عز البرد ، وهو يرتدي الجلباب الدمور الخشن
ويأكل بقايا الطعام في المطبخ ، ويتذكر كيف كان يسير علي قدميه أربعين كيلو متر يومياً في مشاوير
أسرة جده ، وكيف كان يمرض كثيراً بسبب
نومه علي البلاط ولا يُعالج إلا بالوصفات
البلدية !
يقول أيوب لأبيه : ألم أكن ابنك أيضاً يا أبي ، كما أن أبنائك الثلاثة الذين
يعيشون في حضنك الآن أبناؤك ؟!
انتهي الموقف بين أيوب وأبيه بأن أعطاه هدية مالية مناسبة دون أن يشير إلي
أنها ستصبح مساعدة شهرية منتظمة .
بعد أن انصرف والد أيوب لحال سبيله تنبه الرجل إلي أن زوجته الفاضلة أمينة
قد سمعت من حديثه عن تفاصيل كفاحه المرير وأيام شقاؤه في بيت جده ، ساعتها قالت له
أمينة : لم أتخيل أنه توجد في الدنيا قلوباً قاسية إلي هذا الحد !
وفوجئ أيوب بزوجته تحتضنه وتبكي بالدمع الغزير ونظرات العطف والإشفاق تطل من عينيها !
يعيش أيوب الآن في حيرة كبيرة ، يتساءل عن موقف الدين من أب مثل أبيه ؛ هل
هذا الأب يندرج حقاً ضمن الآباء الذين قال الله سبحانه وتعالي لنا عنهم : ( وقضى
ربك ألا يعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً . إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو
كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما ) .. وقال لنا أيضاً ( وأخفض لهما جناح
الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً)
هل أبيه حقاً من هؤلاء ؟! .. وهل هو مطالب بأن يبره ويقدم له مساعدة شهرية
كبيرة بعد أن بددّ كل ثروته على ملذاته ومغامراته ؟!
هل هذا الأب الذي تركه يعمل ( خادماً ) عند جده وهو ينفق الآلاف من
الجنيهات يستحق الرحمة والمساعدة ؟!!
أيوب يبرّ أمه وعلى استعداد تام كي ينزع عينيه من محاجرهما ليعطيها لها ،
فهل من العدل أن يعطي هذا االأب الجاحد مثلها ويسوي بينه وهو الظالم وبين المظلوم
والضحية وهم أمه وإخوته ؟!!
هو يحس تجاه أبيه بكرهية شديدة ، وفي نفس الوقت يخشى أن يحاسبه الله على
مشاعره السلبية تجاه أبيه !
تلك كانت أيإم شقاء وكفاح وآلام عشناها مع الصابر المحتسب أيوب ، وندرك
جيداً أن أباه الجاحد هذا لا يستحق أي عطف أو شفقة ، لكنه رغم أي شئ في النهاية
أبيه ، والأية الكريمة التي ذكرها تحث على البر بآبائنا والإحسان إليهم واحترامهم
مهما فعلوا ... هذا هو ديننا الإسلامي الحنيف ، دين الرحمة والهداية لكل البشر .
أما من حيث سؤال أيوب عن العدل المفقود في المساواة بين أبيه الجاحد
الأناني المستهتر وبين أمه الحنون الصابرة ؛ فالجواب واضح لكل ذي بصيرة ؛ ذلك أن
هناك فارق كبير بين عطائه لأمه وعطائه لأبيه ، فاالنفقة الواجبة إنما تكون بقدر
حاجة مستحقها ، وهو الأن يعطي أبيه الحد الأدنى الذي يراه ويشعر أنه يبرئ ذمته
أمام الله ، وفي نفس الوقت يستمر في الإغداق علي أمه وإخوته ؛ حينئذ يكون الفارق
شاسعاً بين عطائه لمن يستحقون العطاء حباً وكرامة ؛ ومن لا يمد يده إليهم إلا
صدوعاً بأمر ربه وإبراء لذمته أمامه !
ذلك هو الفارق الجوهؤي بين الخير والشر في حياتنا الدنيا ، ويكفي أبيه
عقاباً من الله أن ألجأته الحاجة إلي طلب المعونة من ولده الصابر أيوب بالذات وهو
الذي لم يحفل به يوماً وهو يتجرع كئوس البؤس والشقاء في بيت جده !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد النجار
كاتب مصري
تعليقات
إرسال تعليق